سورة الحاقة
بسم اللّه الرحمن الرحيم.
الآية رقم (1 : 12)
{ الحاقة . ما الحاقة . وما أدراك ما الحاقة .كذبت ثمود وعاد بالقارعة . فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية . وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية . سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية . فهل ترى لهم من باقية . وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة . فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية . إنا لما طغا الماء حملناكم في الجارية . لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية }
{الحاقَّةُ} من أسماء يوم القيامة، لأن فيها يتحقق الوعد والوعيد، ولهذا عظَّم اللّه أمرها فقال: {وما أدراك ما الحاقَّة}، ثم ذكر تعالى إهلاكه الأمم المكذبين بها فقال تعالى: {فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية} وهي الصيحة التي أسكتتهم والزلزلة التي أسكنتهم، هكذا قال قتادة {الطاغية}: الصيحة، وهو اختيار ابن جرير، وقال مجاهد: {الطاغية} الذنوب، وكذا قال ابن زيد إنها الطغيان، وقرأ: {كذبت ثمود بطغوها}، {وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر} أي باردة، قال قتادة والسدي: {عاتية} أي شديدة الهبوب، عتت عليهم حتى نقبت عن أفئدتهم، وقال الضحّاك: {صرصر} باردة {عاتية} عتت عليهم بغير رحمة ولا بركة، وقال علي: عتت على الخزنة فخرجت بغير حساب، {سخرها عليهم} أي سلطها عليهم {سبع ليالي وثمانية أيام حسوماً} أي كوامل متتابعات مشائيم، قال ابن مسعود: {حسوماً} متتابعات، وعن عكرمة والربيع: مشائيم عليهم كقوله تعالى: {في أيام نحسات} ويقال: إنها التي تسميها الناس الأعجاز، وكأن الناس أخذوا ذلك من قوله تعالى: {فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية}. وقيل: لأنها تكون في عجز الشتاء، قال ابن عباس: {خاوية} خربة، وقال غيره: بالية، أي جعلت الريح تضرب بأحدهم الأرض فيخرّ ميتاً على أمِّ رَأْسه، فينشدح رأسه، وتبقى جثته هامدة، كأنها قائمة النخلة إذا خرت بلا أغصان، وقد ثبت عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: (نصرت بالصَّبا وأهلكت عاد بالدَّبور) "أخرجاه في الصحيحين". وعن ابن عمر قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:(ما فتح اللّه على عاد من الريح التي هلكوا بها إلا مثل موضع الخاتم، فمرت بأهل البادية فحملتهم ومواشيهم وأموالهم فجعلتهم بين السماء والأرض، فلما رأى ذلك أهل الحاضرة من عادٍ، الريحَ وما فيها قالوا: هذا عارض ممطرنا، فألقت أهل البادية ومواشيهم على أهل الحاضرة) "رواه ابن أبي حاتم"{فهل ترى لهم من باقية}؟ أي هل تحس منهم من أحد من بقاياهم أو ممن ينتسب إليهم؟ بل بادوا عن آخرهم، ولم يجعل اللّه لهم خلفاً، ثم قال تعالى: {وجاء فرعون ومن قبله} أي ومن قبله من الأمم المشبهين له، وقوله تعالى: {والمؤتفكات} وهم الأمم المكذبون بالرسل، {بالخاطئة} وهي التكذيب بما أنزل اللّه، قال الربيع {بالخاطئة} أي بالمعصية، وقال مجاهد: بالخطايا، ولهذا قال تعالى: {فعصوا رسول ربهم} أي كل كذب رسول اللّه إليهم كما قال تعالى: {إن كلٌ إلا كذب الرسل فحق وعيد}، ومن كذب برسول فقد كذب بالجميع، كما قال تعالى: {كذبت قوم نوح المرسلين}، {كذبت عاد المرسلين} وإنما جاء إلى كل أمّة رسول واحد، ولهذا قال ههنا: {فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية} أي عظيمة شديدة أليمة، قال مجاهد {رابية}: شديدة، وقال السدي: مهلكة.
ثم قال تعالى: {إنا لمّا طغى الماء} أي ازداد على الحد، وقال ابن عباس: {طغى الماء} كثر، وذلك بسبب دعوة نوح عليه السلام، فاستجاب اللّه له، وعمَّ أهل الأرض بالطوفان إلا من كان مع نوح في السفينة، فالناس كلهم من سلالة نوح وذريته، قال علي بن أبي طالب: لم تنزل قطرة من ماء إلا بكيل على يدي ملك، فلما كان يوم نوح أذن للماء دون الخزان، فطغى الماء على الخزان، فخرج، فذلك قوله تعالى: {إنا لمّا طغى الماء} أي زاد على الحد بإذن اللّه، {حملناكم في الجارية} ولم ينزل شيء من الريح إلا بكيل على يدي ملك إلا يوم عاد فإنه أذن لها دون الخزان فخرجت، فذلك قوله تعالى: {بريح صرصر عاتية} "رواه ابن جرير"، ولهذا قال تعالى ممتناً على الناس {حملناكم في الجارية} وهي السفينة الجارية على وجه الماء، {لنجعلها لكم تذكرة} أي وأبقينا لكم من جنسها ما تركبون على تيار الماء في البحار، كما قال: {وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون}، وقال تعالى: {وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون * وخلقنا لهم من مثله ما يركبون} وقال قتادة: أبقى اللّه السفينة حتى أدركها أوائل هذه الأمة، والأول أظهر، ولهذا قال تعالى: {وتعيها أذن واعية} أي وتفهم هذه النعمة وتذكرها أذن واعية، قال ابن عباس: حافظة سامعة، وقال قتادة: {أذن واعية} عقلت عن اللّه فانتفعت بما سمعت من كتاب اللّه. وقال الضحّاك: {وتعيها أذن واعية} سمعتها أذن ووعت، أي من له سمع صحيح وعقل رجيح، وهذا عام في كل من فهم ووعي.
الآية رقم (13 : 18)
{ فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة . وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة . فيومئذ وقعت الواقعة . وانشقت السماء فهي يومئذ واهية . والملك على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية . يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية }
يقول تعالى مخبراً عن أهوال يوم القيامة، وأول ذلك نفخة الفزع ثم يعقبها نفخة الصعق حين يصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء اللّه، ثم بعدها نفخة القيام لرب العالمين، وقد أكدها ههنا بأنها واحدة لأن أمر اللّه لا يخالف ولا يمانع، ولا يحتاج إلى تكرار ولا تأكيد، قال الربيع: هي النفخة الأخيرة، والظاهر ما قلناه، ولهذا قال ههنا: {وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة} أي فمدت مد الأديم، وتبدلت الأرض غير الأرض، {فيومئذ وقعة الواقعة} أي قامت القيامة، {وانشقت السماء فهي يومئذ واهية}. عن علي قال: تنشق السماء من المجرة، وقال ابن جرير: هي كقوله: {وفتحت السماء فكانت أبواباً}، {والملك على أرجائها} الملك اسم جنس أي الملائكة. على أرجاء السماء: أي حافاتها، وقال الضحّاك: أطرافها، وقال الحسن البصري: أبوابها، وقال الربيع بن أنَس في قوله: {والملك على أرجائها}يقول: على ما استدق من السماء ينظرون إلى أهل الأرض، وقوله تعالى: {ويحمل عرش ربك فوقهم ثمانية} أي يوم القيامة يحمل العرش ثمانية من الملائكة، عن جابر بن عبد اللّه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (أذن لي أن أحدث عن ملك من الملائكة اللّه تعالى من حملة العرش أن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام) "رواه أبو داود". وعن سعيد بن جبير في قوله تعالى: {ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية} قال: ثمانية صفوف من الملائكة. وقوله تعالى: {يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية} أي تعرضون على عالم السر والنجوى، الذي لا يخفى عليه شيء من أموركم، بل هو عالم بالظواهر والسرائر والضمائر، ولهذا قال تعالى: {لا تخفى منكم خافية}، وقد قال عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، فإنه أخف عليكم في الحساب غداً، وتزينوا للعرض الأكبر {يومئذ تعرضون لا تخفى
منكم خافية} "أخرجه ابن أبي الدنيا عن ثابت بن الحجّاج"، وروى الإمام أحمد، عن أبي موسى قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات: فأما عرضتان فجدال ومعاذير، وأما الثالثة فعند ذلك تطير الصحف في الأيدي فآخذ بيمينه وآخذ بشماله) "أخرجه أحمد والترمذي".
الآية رقم ( 19 : 24)
{ فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرؤوا كتابيه . إني ظننت أني ملاق حسابيه . فهو في عيشة راضية . في جنة عالية . قطوفها دانية .كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية }
يخبر تعالى عن سعادة من يؤتى كتابه يوم القيامة بيمينه، وفرحه بذلك وأنه من شدة فرحه يقول لكل من لقيه: {هاؤم اقرأوا كتابيه} أي خذوا اقرأوا كتابيه، لأنه يعلم أن الذي فيه خير وحسنات محضة، لأنه ممن بدل اللّه سيئاته حسنات، وعن عبد اللّه بن عبد اللّه بن حنظلة غسيل الملائكة قال: إن اللّه يوقف عبده يوم القيامة فيبدي أي يظهر سيئاته في ظهر صحيفته، فيقول له: أنت عملت هذا فيقول: نعم أي رب، فيقول له: إني لم أفضحك به وإني قد غفرت لك، فيقول عند ذلك: {هاؤم اقرأوا كتابيه}، {إني ظننت أني ملاق حسابيه} حين نجا من فضيحته يوم القيامة "أخرجه ابن أبي حاتم"، وقد تقدم في الصحيح حديث ابن عمر حين سئل عن النجوى فقال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: (يدني اللّه العبد يوم القيامة فيقرره بذنوبه كلها، حتى إذا رأى أنه قد هلك، قال اللّه تعالى: إني سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، ثم يعطى كتاب حسناته بيمينه، وأما الكافر والمنافق فيقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة اللّه على الظالمين)، وقوله تعالى: {إني ظننت أني ملاق حسابيه} أي قد كنت موقناً في الدنيا، أن هذا اليوم كائن لا محالة، كما قال تعالى: {الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم}، قال تعالى: {فهو في عيشة راضية} أي مرضية، {في جنة عالية} أي رفيعة قصورها، حسان حورها، نعيمة دُورها، دائم حبورها، روى ابن أبي حاتم، عن أبي أمامة قال: سأل رجل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: هل يتزاور أهل الجنة؟ قال: (نعم. إنه ليهبط أهل الدرجة العليا إلى أهل الدرجة السفلى فيحيونهم ويسلمون عليهم ولا يستطيع أهل الدرجة السفلى يصعدون إلى الأعلين تقصر بهم أعمالهم) "رواه ابن أبي حاتم"، وقد ثبت في الصحيح: (أن الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض). وقوله تعالى: {قطوفها دانية} قال البراء بن عازب: أي قريبة يتناولها أحدهم وهو نائم على سريره، وكذا قال غير واحد، روى الطبراني، عن سلمان الفارسي قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (لا يدخل أحد الجنة إلا بجواز: بسم اللّه الرحمن الرحيم هذا كتاب من اللّه لفلان بن فلان أدخلوه جنة عالية قطوفها دانية) "رواه الطبراني"، وفي رواية: (يعطى المؤمن جوازاً على الصراط: بسم اللّه الرحمن الرحيم هذا كتاب من اللّه العزيز الحكيم لفلان، أدخلوه جنة عالية قطوفها دانية) "أخرجه الضياء في صفة الجنة"، وقوله تعالى: {كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية} أي يقال لهم ذلك تفضلاً عليهم وامتناناً، وإنعاماً وإحساناً، وإلا فقد ثبت في الصحيح عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: (اعملوا وسددوا وقاربوا واعلموا أن أحداً منكم لن يدخله عمله الجنة) قالوا: ولا أنت يا رسول اللّه؟ قال: (ولا أنا إلا أن يتغمدني اللّه برحمة منه وفضل).
الآية رقم (25 : 37)
{ وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه . ولم أدر ما حسابيه . يا ليتها كانت القاضية . ما أغنى عني ماليه . هلك عني سلطانيه . خذوه فغلوه . ثم الجحيم صلوه . ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه . إنه كان لا يؤمن بالله العظيم . ولا يحض على طعام المسكين .فليس له اليوم هاهنا حميم . ولا طعام إلا من غسلين . لا يأكله إلا الخاطئون }
وهذا إخبار عن حال الأشقياء إذا أعطي أحدهم كتابه في العرصات بشماله فحينئذ يندم غاية الندم، {فيقول ليتني لم أوت كتابيه * ولم أدر ما حسابيه * يا ليتها كانت القاضية} قال الضحّاك: يعني موتة لا حياة بعدها، وقال قتادة: تمنّى الموت ولم يكن شيء في الدنيا أكره إليه منه، {ما
أغنى عني ماليه * هلك عني سلطانيه} أي لم يدفع عني مالي ولا جاهي عذاب اللّه وبأسه، بل خلص الأمر إليّ وحدي، فلا معين لي ولا مجير فعندها يقول اللّه عزَّ وجلَّ: {خذوه فغلوه * ثم الجحيم صلّوه} أي يأمر الزبانية أن تأخذه عنفاً من المحشر فتغله، أي تضع الأغلال في عنقه، ثم تورده إلى جهنم فتصليه إيّاها، أي تغمره فيها. عن المنهال بن عمرو قال: إذا قال اللّه تعالى: خذوه، ابتدره سبعون ألف ملك، إن الملك منهم ليقول: هكذا، فيلقي سبعين ألفاً في النار "رواه ابن أبي حاتم"، وقال الفضيل بن عياض إذا قال الرب عزَّ وجلَّ {خذوه فغلوه} ابتدره سبعون ألف ملك أيهم يجعل الغل في عنقه، {ثم الجحيم صلوه} أي أغمروه فيها، وقوله تعالى: {ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً فاسلكوه} قال كعب الأحبار: كل حلقة منها قدر حديد الدنيا، وقال ابن عباس: بذراع الملك، وقال العوفي عن ابن عباس: يسلك في دبره حتى يخرج من منخريه حتى لا يقوم على رجليه، روى الإمام أحمد، عن عبد اللّه بن عمرو قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (لو أن رضاضة مثل هذه - وأشار إلى جمجمة - أرسلت من السماء إلى الأرض وهي مسيرة خمسمائة سنة لبلغت الأرض قبل الليل، ولو أنها أرسلت من رأس السلسلة لسارت أربعين خريفاً الليل والنهار قبل أن تبلغ قعرها أو أصلها) "أخرجه أحمد والترمذي، وقال: حديث حسن". وقوله تعالى: {إنه كان لا يؤمن باللّه العظيم * ولا يحض على طعام المسكين} أي لا يقوم بحق اللّه عليه من طاعته وعبادته، ولا ينفع خلقه ويؤدي حقهم، فإن للّه على العباد أن يوحدوه ولا يشركوا به شيئاً، وللعباد بعضهم على بعض حق الإحسان والمعاونة على البر والتقوى، ولهذا أمر اللّه بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وقبض النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو يقول: (الصلاة، وما ملكت أيمانكم)، وقوله تعالى: {فليس له اليوم ههنا حميم * ولا طعام إلا من غسلين * لايأكله إلا الخاطئون} أي ليس له اليوم من ينقذه من عذاب اللّه تعالى، لا {حميم} وهو القريب، ولا {شفيع} يطاع، ولا طعام له ههنا {إلا من غسلين} قال قتادة: هو شر طعام أهل النار، وقال الضحّاك: هو شجرة في جهنم، وقال ابن عباس: ما أدري ما الغسلين؟ ولكني أظنه الزقوم "أخرجه ابن أبي حاتم"، وقال عكرمة عنه: الغسلين: الدم والماء يسيل من لحومهم، وعنه الغسلين صديد أهل النار.
الآية رقم (38 : 43)
{ فلا أقسم بما تبصرون . وما لا تبصرون . إنه لقول رسول كريم . وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون . ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون . تنزيل من رب العالمين }
يقول تعالى مقسماً لخلقه، بما يشاهدونه من آياته في مخلوقاته، الدالة على كماله في أسمائه وصفاته، وما غاب عنهم مما لا يشاهدونه من المغيبات عنهم، إن القرآن كلامه ووحيه وتنزيله على عبده ورسوله، الذي اصطفاه لتبليغ الرسالة وأداء الأمانة، فقال تعالى: {فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون * إنه لقول رسول كريم} يعني محمداً صلى اللّه عليه وسلم، أضافه إليه على معنى التبليغ، {وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون * ولا بقول كاهن قليلاً ما تذكرون} فأضافه اللّه تارة إلى جبريل الرسول الملكي، وتارة إلى {محمد} الرسول البشري، لأن كلا منهما مبلغ عن اللّه، ما استأمنه عليه وحيه وكلامه، ولهذا قال تعالى: {تنزيل من رب العالمين} قال عمر بن الخطاب: خرجت أتعرض رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قبل أن أسلم، فوجدته قد سبقني إلى المسجد فقمت خلفه، فاستفتح سورة الحاقة فجعلت أعجب من تأليف القرآن، قال، فقلت: هذا واللّه شاعر كما قالت قريش، قال: فقرأ: {إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون} قال، فقلت: كاهن، قال: فقرأ {ولا بقول كاهن قليلاً ما تذكرون * تنزيل من رب العالمين} إلى آخر السورة، قال فوقع الإسلام في قلبي كل موقع. فهذا من جملة الأسباب التي جعلها اللّه تعالى مؤثرة في هداية عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه.
الآية رقم (44 : 52)
{ ولو تقول علينا بعض الأقاويل . لأخذنا منه باليمين . ثم لقطعنا منه الوتين . فما منكم من أحد عنه حاجزين . وإنه لتذكرة للمتقين . وإنا لنعلم أن منكم مكذبين . وإنه لحسرة على الكافرين . وإنه لحق اليقين . فسبح باسم ربك العظيم }
يقول تعالى: {ولو تقول علينا} أي محمد صلى اللّه عليه وسلم، لو كان كما يزعمون مفترياً علينا، فزاد في الرسالة أو نقص منها، أو قال شيئاً من عنده، فنسبه إلينا لعاجلناه بالعقوبة، ولهذا قال تعالى: {لأخذنا منه باليمين} قيل: معناه لانتقمنا منه باليمين لأنها أشد في البطش، وقيل: لأخذناه بيمينه، {ثم قطعنا منه الوتين} قال ابن عباس: وهو نياط القلب، وهو العرق الذي القلب معلق فيه، وقال محمد بن كعب: هو القلب ومراقه وما يليه، وقوله تعالى: {فما منكم من أحد عنه حاجزين} أي فما يقدر أحد منكم على أن يحجز بيننا وبينه، إذا أردنا به شيئاً من ذلك، والمعنى في هذا بل هو صادق بار راشد، لأن اللّه عزَّ وجلَّ مقرر له ما يبلغه عنه، ومؤيد له بالمعجزات الباهرات والدلالات القاطعات، ثم قال تعالى: {وإنه لتذكرة للمتقين}. كما قال تعالى: {قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء}، ثم قال تعالى: {وإنا لنعلم أن منكم مكذبين} أي مع هذا البيان والوضوح، سيوجد منكم من يكذب بالقرآن، ثم قال تعالى: {وإنه لحسرة عالى الكافرين} قال ابن جرير: وإن التكذيب لحسرة على الكافرين يوم القيامة، ويحتمل عود الضمير على القرآن، أي وإن القرآن و الإيمان به لحسرة في نفس الأمر على الكافرين، كما قال تعالى: {كذلك سلكناه في قلوب المجرمين لا يؤمنون به}، وقال تعالى: {وحيل بينهم وبين ما يشتهون}، ولهذا قال ههنا: {وإنه لحق اليقين} أي الخبر الصادق الحق، الذي لا مرية فيه ولا شك ولا ريب، ثم قال تعالى: {فسبح باسم ربك العظيم} أي الذي أنزل هذا القرآن العظيم.